مع اقتراب موعد المؤتمر الرابع عشر للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، تفرض بعض الأسئلة الحارقة نفسها بإلحاح يتجاوز طقوس المؤتمرات ومجاملات التداول في الجوانب التنظيمية أو الإدارية، لتلامس جوهر المشروع الحقوقي نفسه، وعمقه الشعبي، وحدود امتداداته في المجتمع. ومن بين القضايا التي تشكل مقياساً حقيقياً لمدى نجاعة الرؤية الحقوقية التي تؤطر اشتغال الجمعية، تبرز مسألة الحقوق اللغوية والثقافية، وفي صلبها المسألة الأمازيغية باعتبارها مكوناً بنيوياً في الهوية المغربية، ومرآةً تعكس عمق التعدد والتنوع اللغوي والثقافي الذي يطبع هذا البلد منذ قرون. هذه القضية، التي ظلت تحضر في مؤتمرات الجمعية منذ عقود، غالباً ما كانت تُتناول بصيغ فضفاضة تكتفي بالتنديد بالتهميش أو المطالبة بالإدماج الرمزي، دون أن تترجم إلى رؤية فعلية تنتصر لحق الشعب المغربي في لغاته الأم، وفي نمط حياته الرمزي والثقافي، وفي إعادة الاعتبار إلى موروثاته الشعبية التي كانت، ولا تزال، عرضة للتحقير والتسليع والتبخيس.
لقد أصبح من الملح اليوم مساءلة الذات الحقوقية الجمعية عن مدى امتلاكها لرؤية دقيقة وعملية في ما يخص الحقوق الثقافية واللغوية، ليس فقط بوصفها جزءاً من الحقوق المدنية والسياسية، بل باعتبارها عنصراً تأسيسياً في بناء مفهوم شامل للعدالة الاجتماعية والمجالية والهوياتية. فلا يمكن الحديث عن تنمية عادلة أو عن عدالة انتقالية منصفة في غياب إصلاح جذري في العلاقة مع الهويات الثقافية واللغوية للشعب المغربي، وفي غياب مراجعة شاملة لمنظومة الدولة التي لا تزال، برغم دسترة الأمازيغية، تعيد إنتاج منطق التمييز الرمزي واللغوي، وتواصل تغريب الفضاء العمومي وتفريغه من لغاته الحية.
وحدها المقاربة الحقوقية الجذرية القادرة على إعادة الاعتبار للغة الأمازيغية في عمقها التاريخي والسياسي، بوصفها لغة مقاومة، لا مجرد وسيلة تواصل أو تعبير. المقاربة التي تتجاوز الخطاب الإنشائي العام إلى بلورة مشاريع فعلية تدافع عن الأمازيغية كلغة شعب، لا كلغة تزيينية في واجهات المؤسسات. فماذا أنجز فعلاً منذ ترسيم الأمازيغية؟ هل يكفي أن تكتب عبارات معربة بالأبجدية الأمازيغية على جدران البلديات حتى نقول إن الهوية قد أنصفت؟ وماذا عن التهميش البنيوي الذي لا تزال تعانيه الأمازيغية في المدرسة والإعلام والإدارة والقضاء؟ وهل تمتلك الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أدوات نقدية حقيقية تسمح لها بتقييم هذا المسار، أم أنها اكتفت هي الأخرى باستهلاك الواجهة الدستورية دون مساءلتها في العمق؟
الجواب عن هذه الأسئلة لا ينفصل عن ضرورة إعادة النظر في الموقف من السياسات اللغوية والتعليمية القائمة، والتي ما زالت تراهن على تمكين اللغة الفرنسية في مفاصل الدولة ومجالات العلم والاقتصاد، مقابل إقصاء تدريجي مقنع للغتين الأمازيغية والعربية، وحرمان أوسع فئات الشعب من حقه في التعلم بلغته الأم. وهو ما يجعل المسألة اللغوية اليوم مفتاحاً لفهم جوهر الصراع حول السلطة الثقافية في البلاد، وصورة صارخة عن طبيعة السياسات التي تستبطن احتقاراً بنيوياً لهوية الأغلبية.
كما لا يمكن الحديث عن الحقوق الثقافية واللغوية دون ربطها بالحق في التنمية المجالية والاقتصادية. إذ أن أشد مناطق المغرب فقراً وتهميشاً هي نفسها المناطق التي تشكل القلب النابض للثقافة الأمازيغية، من جبال الأطلس، إلى الجنوب الشرقي والريف…، حيث يتداخل الحرمان من الموارد مع محاولات ممنهجة لسلخ السكان عن لغتهم وتاريخهم. وبهذا المعنى، لا يمكن فصل قضية الأمازيغية عن مطلب العدالة المجالية الذي ظل حاضراً في بيانات الجمعية، لكنه غالباً ما يُصاغ بصيغ تقنية لا تستحضر البعد الهوياتي العميق للتنمية.
إن الجمعية، وهي تدخل محطة المؤتمر الرابع عشر، مطالبة بإعادة صياغة علاقتها بمطلب الهوية، عبر تجاوز المقولات التجريدية والإنشائية إلى بلورة تصور استراتيجي يربط بين الحقوق الثقافية واللغوية من جهة، ومطلب التحرر من التبعية الرمزية والاستعمار الثقافي من جهة ثانية. فلا معنى لأي مشروع حقوقي لا يضع في جوهره الانتصار لهوية الشعب، ولغته، وذاكرته، وموروثه، في مواجهة سياسات التغريب والمحو الرمزي التي تعيد إنتاج التبعية تحت مسميات التحديث والانفتاح. فإلى متى سيبقى الدفاع عن الأمازيغية محصوراً في دائرة ردود الفعل أو في ملحقات التقارير العامة؟ ومتى ستترجم الجمعية التزامها بمبدإ الكونية إلى رؤية متجذرة في سياقها الوطني الشعبي، منحازة فعلاً للغالبية التي تُحرم يومياً من حقها في النطق والتفكير بلغتها؟
الجواب عن هذه الأسئلة لن يتأتى إلا بإعادة هيكلة الموقف الحقوقي من الهوية، وبتأسيس مقرر خاص بالحقوق اللغوية والثقافية، يتجاوز عتبة التوصيات إلى المرافعة الميدانية والمؤسسة. فالدفاع عن الحقوق ليس فقط معركة من أجل حرية التعبير والتنقل، بل هو أيضاً معركة من أجل انتزاع الاعتراف بالوجود، وبالحق في أن نكون على ما نحن عليه، لا على ما يُراد لنا أن نكون.
– أبوعلي بلمزيان.