ابو علي بلمزيان
يأتي المؤتمر الرابع عشر للجمعية المغربية لحقوق الإنسان في سياق سياسي واجتماعي وحقوقي موسوم بتوترات متنامية ومؤشرات مقلقة على تراجع الحريات، وتزايد الانتهاكات، وتغول السلطوية في مختلف الواجهات، ما يفرض على الجمعية تجديد أدواتها التنظيمية والترافعية، وتعميق تحليلها السياسي والحقوقي، واستشراف مهام نضالية جديدة تواكب تحولات المجتمع والدولة.
فبعد عقود من التراكم النوعي في رصد الانتهاكات، وتكوين الأطر، وتوسيع دائرة التضامن مع ضحايا القمع والتمييز والتهميش، بات من الضروري، بعد المؤتمر الأخير، تجاوز منطق الاستمرارية البسيطة نحو تأسيس فعل حقوقي يلتقط لحظة الانحباس السياسي والحقوقي، ويتفاعل مع تطورات عالمية متسارعة في مقاربات الدفاع عن الحقوق، وخاصة ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية والبيئية والرقمية.
لقد شكل المؤتمر الرابع عشر لحظة ديمقراطية داخلية حقيقية، بما اتسم به من نقاش صريح حول الوضع الداخلي للجمعية، وإشكالات التأطير، وتجديد العضوية، وأشكال التنسيق وطنيا وجهويا ومحليا.
غير أن ما بعد المؤتمر يفرض الانتباه إلى أن الرهان الأكبر لا يكمن فقط في تجديد القيادة أو توسيع دائرة العضوية، بل في مدى قدرة الجمعية على بلورة مشروع نضالي يربط بين المرجعية الكونية لحقوق الإنسان وسياق التحولات المركبة التي يعرفها المغرب، والتي لم تعد الانتهاكات فيها مجرد ممارسات معزولة، بل باتت تعكس اختيارات ممنهجة في التضييق على الأصوات الحرة، وتشجيع الإفلات من العقاب، وتمييع الخطاب الحقوقي عبر تسويق رسمي انتقائي ومرتبك.
من هنا تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة تعريف العمل الحقوقي انطلاقا من مقاربة نسقية تنفتح على قضايا لم تكن في صلب الاشتغال التقليدي للجمعية، كالحق في البيئة، وحقوق الأجيال القادمة، والحقوق الرقمية، والحق في المعرفة والمعلومة، والعدالة المناخية، والمساءلة البيئية، وحق الأفراد والمجتمعات في تقرير مصيرهم الاقتصادي والثقافي.
إن الحقوق لم تعد اليوم مجرد لوائح للمطالب أو مجرد مسطرة للتقاضي، بل أصبحت مفهوما شاملا يتداخل فيه القانوني بالسياسي، والاجتماعي بالاقتصادي، والثقافي بالبيئي، وهو ما يستدعي أن تتحول الجمعية من فضاء للرصد والتنديد فقط، إلى مختبر لإنتاج الأفكار، وصياغة بدائل، وبناء جبهة اجتماعية-حقوقية ذات أفق تغييري.
ولعل من أهم المهام المطروحة على الجمعية بعد مؤتمرها الرابع عشر هو تعزيز الاندماج بين الأجيال داخل هياكلها، عبر تمكين الشباب والنساء من مواقع القرار، والانفتاح على كفاءات علمية وميدانية من خارج دائرة النشطاء التقليديين، لضمان استمرارية الفعل وتجدده.
كما أن العمل على تطوير آليات الرصد والتوثيق الرقمي، وتوسيع قاعدة التكوين المستمر، والتفكير في بناء مرصد وطني مستقل للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، بات ضرورة استراتيجية، خاصة مع تصاعد الاحتجاجات المحلية المرتبطة بالغلاء، وندرة المياه، ونهب الثروات، ومشاكل الصحة والتعليم، وهي مجالات لا يمكن تجاهلها إن أرادت الجمعية أن تظل فاعلا حقيقيا في معادلة التغيير.
ومن بين المقترحات التي يمكن أن تطور العمل الحقوقي للجمعية، الدعوة إلى إطلاق “المنتدى الوطني للحقوق الناشئة”، ليكون فضاء سنويا لتبادل الخبرات حول القضايا المستجدة، وربط جسور التواصل مع الفاعلين المحليين والدوليين، بما فيهم الحركات النسوية، والإيكولوجية، والنقابات التقدمية، والفاعلين الرقميين.
كما أن من شأن العمل على “الميثاق الأخلاقي للمدافعين عن حقوق الإنسان” أن يعيد الثقة إلى الخطاب الحقوقي، ويقطع مع كل أشكال الانتهازية أو التوظيف الفئوي للقضايا العادلة. وبما أن الجمعية تواجه في كثير من الأحيان حملة ممنهجة من التشويه والتشكيك، فإن تطوير إعلامها الرقمي، وتعزيز خطابها باللغتين العربية والأمازيغية، وربط النضال الحقوقي بالثقافة والفن، عوامل ضرورية لتحصين المشروع الحقوقي من العزلة والتشويه.
إن النضال الحقوقي في المغرب لا يمكن أن ينفصل عن نضالات أوسع من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فالجمعية ليست بديلا عن الأحزاب أو النقابات أو الحركات الاجتماعية، لكنها تشكل ضميرا جماعيا حرا يقاوم الصمت والخوف والتواطؤ، وينير الطريق أمام الوعي الجمعي، ويدافع عن الكرامة كمبدأ غير قابل للتفاوض.
ولهذا، فإن الأفق الاستراتيجي بعد المؤتمر ينبغي أن يتمثل في بناء “جبهة حقوقية-اجتماعية-ديمقراطية” عريضة، تعيد الاعتبار للحق في التنظيم، والاحتجاج، والاختلاف، وتفتح مساحات جديدة للفعل المشترك، دون الانجرار إلى منطق التنازلات أو الاصطفاف وراء مشاريع الدولة السلطوية.
إن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وقد راكمت تجربة نضالية مشهودة، أمام مفترق طرق حقيقي: فإما أن تواصل أداءها بنفس الأدوات والآليات، وهو ما يهدد بتحنيط التجربة وتكرار نفسها، وإما أن تخوض مغامرة التجديد السياسي والفكري والتنظيمي، بروح نقدية واستشرافية، تؤسس لمرحلة جديدة من النضال الحقوقي، يكون قادرا على مقاومة الردة، وصياغة أفق للتحرر الجماعي في زمن يتسارع فيه كل شيء إلا العدالة.
ملحوظة: مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن رأي الجريدة