في منشور يكاد يُقرأ بوصفه مرثية للسوسيولوجيا لا دفاعًا عنها، خرج المدعو جمال فزة، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بالرباط، بتدوينة تدّعي الحياد العلمي، بينما تعجُّ بأخطر أشكال التواطؤ الإيديولوجي مع أنظمة القمع العالمية، وتعيد إنتاج الخطاب المهيمن الذي طالما ناهضه علم الاجتماع بوصفه علمًا نقديًا بامتياز.
يبدأ هذا “الأكاديمي” دفاعه السمج عن مشاركته أو صمته أمام المنتدى العالمي للسوسيولوجيا، بادعاء “الحياد” و”عدم الانتماء لأي لجنة”، في محاولة بئيسة لتبرئة الذات مما يراه “شرفًا” في تنظيم حدث تدنّست فيه المعرفة السوسيولوجية بمشاركة ممثلي الكيان الصهيوني. أي شرف في المساهمة في غسل وجه الاستعمار وتبييض جرائمه عبر بوابة علمية؟ أي عار أكبر من هذا؟
ثم ينتقل إلى هجاء كل من نددوا بمشاركة الصهاينة، واصفا إياهم بـ”الجهل العميق بالمهام المنوطة بعلم الاجتماع”، ناسفا بذلك البعد الأخلاقي والسياسي الذي ارتبط بنشأة السوسيولوجيا منذ دوركهايم وحتى بيير بورديو. وهنا يسقط الأستاذ سقطة لا تليق بطالب سنة أولى، حين يخلط بين الموضوعية العلمية والتواطؤ السياسي، ناسفا تاريخا طويلا من السوسيولوجيا النقدية التي وقفت دوما إلى جانب الشعوب المضطهدة، لا الطغاة والمحتلين.
ما يسميه الأستاذ “الحياد الأكاديمي” ليس سوى تبرير فج للانهزامية والانبطاح، فالسوسيولوجيا – خلافا لما يدعي – لم تكن يوما علما منزوعا من السياسة أو معزولا عن الأخلاق. بل هي، كما علّمنا ماكس فيبر، مشبعة بـ”أخلاقيات الالتزام”، وفهم العالم عندها لا ينفصل عن تغييره. فكيف يُعقل أن يصبح الصمت عن مشاركة ممثلي نظام فصل عنصري شبيه بنظام الأبارتايد الجنوب إفريقي، هو قمة النضج العلمي؟ بل هو قمة العار والانبطاح.
يزعم الأستاذ أن “علم الاجتماع لا يتوقف على إنتاج اليهود أو المسيحيين أو المسلمين”، وهو زعم يُراد به التعمية لا التنوير. فنحن لم نحتج على ديانة الباحثين، بل على هوية سياسية إجرامية لدولة مجرمة تُمارس التطهير العرقي بحق شعب أعزل، ودعوتنا ليست لإقصاء ديانة أو ثقافة، بل لمقاطعة التطبيع مع الاستعمار. وهو فرق لم يفهمه هذا “العالم”، أو لعله فهمه جيدًا واختار أن يغالط متعمّدًا.
ثم يختم منشوره بنبرة استعمارية مقززة، حين يطالب من لا يعجبه الأمر بأن “يُهيئ حقائبه ويرحل”، وكأن هذا العلم حكر على المتواطئين من أمثاله، ناسفًا بذلك كل مبادئ الجامعة العمومية التي قامت على التعدد والاختلاف والمقاومة. وهل هناك ما هو أكثر انحطاطًا من أكاديمي يُقصي زملاءه لأنهم نددوا بمشاركة مجرمي حرب؟ أليست هذه دعوة صريحة لإفراغ الجامعة من أي صوت حر؟
لقد تحوّل الأستاذ جمال فزة من مُدرّس للسوسيولوجيا إلى خطيب باسم سلطة القمع المعولم، ساعيًا إلى تدجين هذا العلم وتحويله إلى أداة طيعة في يد المؤسسات، بدل أن يكون سلاحًا معرفيًا في يد المقهورين. إن خطابه لا يعكس فقط تخليًا عن الوظيفة النقدية للعلم، بل تواطؤًا مفضوحًا مع منظومة الهيمنة التي تمعن في سحق الشعوب وتجويف المعارف من مضامينها التحررية.
ولذلك فإن الرد عليه لا يكون بالدعوة إلى النقاش “الرصين” الذي يدّعيه، بل بفضح خطابه، وتسفيهه، وتجريده من أي شرعية أكاديمية أو أخلاقية. فالعلم الذي يدافع عنه جمال فزة ليس علمًا، بل هو قناع متهالك لنظام معرفي انتهازي لا يختلف كثيرًا عن العلم الكولونيالي الذي سوّغ للعبودية والاحتلال والتمييز العرقي.
وإذا كان هذا هو نموذج الأستاذ الجامعي، فطوبى لنا بالجهل. وإذا كان هذا هو مستقبل السوسيولوجيا، فسلاما عليها إلى يوم البعث.
ابو علي بلمزيان