نعيمة، أختي،
أنت الآن وحيدة في مكان بارد، تنتظرين أن يُنقل جثمانك إلى مسقط رأسك.
كانت وصيتك أن تُدفني بجوار أمك وأبيك.
هما هناك ينتظرانك، ونحن هنا ننتظرك.
أخبرك، غاليتي، أنني سأقدّم مساء السبت، أي بعد يومين، «روايتي» لما حدث حينما كنتِ طفلة صغيرة، تتلمسين طريقك،ببراءة، نحو حياة قاسية.
لم أكن آنذاك موجودا، لأشاركك ذهولك وخوفك مما يجري.
كان جمال معك، وكانت فائزة بجانبك، وعمّاتنا، والجدة… وأمنا..
كنتُ في رحمها أنعم بدفئها، وكنتم تائهون في أحشاء المجهول.
في آخر مكالمة هاتفية بيننا قبل أن تنطفئي، قلتِ لي: تعبت.
آه لو تدرين يا أختي أننا كلنا تعبنا.
أنتِ استرحتِ الآن، ونحن ما زلنا نتحايل على هذا التعب، نداريه تارة، ونستسلم له تارة أخرى.
أعلم، وأنتِ الآن في كفنك البارد، في بلد احتضنك ورعاك وخفف عنك من سطوة المرض اللعين، تنتظرين العودة إلى قريتك، أنك لا تمانعين في أن أقف أمام الناس للحديث عن تلك الأحداث، بقلب يزيده فراقك وجعا.
هي ليست أوجاعنا وحدنا، بل وجع عامّ، لم تسلم أسرة ريفية منه.
هذا تاريخنا يا أختي: وجعٌ يتلوه وجع.
كم مرة سألتِني: متى تنتهي من الكتاب؟
كأنك كنتِ تستشعرين نهايتك، وأنك لن تعيشي حتى تمسكي بجزء من حياتنا بين يديك.
هذا ما خطّه القدر لك ولنا.
أعلم أيضًا أنك كنتِ ستقرئينه، وستبكين كما بكيتُ حينما كنت أستعيد بعض المشاهد.
كنتِ ستحسّين بنفس الألم الذي كان يعصرني وأنا أعيد صياغة تفاصيل الألم. هي مأساة عامة، يا أختي؛ مأساة منطقة قدّر الله لها أن تضحي بلا حساب، بلا انتظارٍ لمن يشكرها على تعبها في سبيل غيرها.
نحن قوم نضحي وكفى.
حينما بعثتُ لك كتاب «عبد الكريم.. التاريخ الآخر»، كنت أحسب أنك لا تعرفين القراءة والكتابة، وظننت أنك ترغبين فقط في تشجيعي.
ولا تدرين يا أختي كم كان حجم الفرح الذي اجتاحني حينما علمت أنك تقرئين وتكتبين… أفضل من كثيرين ممن قضوا سنواتٍ بين الدفاتر والأقلام.
كنتِ الوحيدة بيننا التي لم تعرف لون بوابة المدرسة ولا شكل حجرتها من الداخل.
لكنّك انتصرتِ لنفسك، ولنا، حينما كافحتِ، وحدك، لسدّ تلك الفجوة الظالمة بيننا.
كم كنا نضحك حينما يسمح الوقت لنا بالتذكّر.
نتذكر الشقاوات، نتذكر قلّة ذات اليد، ونتذكّر تلك «المعارك» التي كنا نخوضها في الحقل بالكلمات.
كنتِ ماهرة في إبداع “إزران”، وكنتُ أجاريك مستعينًا بخيال أختنا فائزة…
هي من كانت تزوّدني بذخيرة لا تنضب في فن الهجاء.
وكم هي قاسية ربفيتنا في لغة الهجاء!
ذات مرة، أعدتِ على مسامعي بعض الأبيات الهجائية، فضحكنا، كما كنا نضحك – ربما – في الحقل أيضا ونحن نحشّ الكلأ.
كنا نستنبت الفرح لنحيا.
سأوقّع مساء السبت إذن تلك الرواية التي تحمل عنوانا يصلح ليكون عنوانا عاما لفصل حالك في ذاكرتنا الجماعية: «إقبان.. سيرة جبل».
نعم، هي سيرتك وسيرة منطقةٍ بكاملها.
كم بيت طوى حزنه في جوفه؟
وكم أمل ظل عالقا في الهواء؟
لا أقول إننا انتصرنا على الألم، لكنه لم يهزمنا أيضا.
هناك فقط فراغ تركه غيابك.
ولعل حضورك معنا في هذا اللقاء سيخفّف قليلا من ثقل ذلك الغياب.
أخوكِ الذي لن ينساك.
الحسيمة، 09 أكتوبر 2025
الصورة: نحن مع المرحوم سعيد الخطابي، نجل الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، في أيث بوخلف، بداية الستينات














