لم تعد التحولات التي تعرفها البادية المغربية مجرد ظواهر اجتماعية عابرة، بل أضحت اختلالات بنيوية تهدد استمرارية الوجود القروي في أبعاده الاقتصادية والبيئية والثقافية. فالزراعة الأسرية، التي شكلت لزمن طويل العمود الفقري للإنتاج وللاستقرار الاجتماعي، تراجعت بشكل مقلق، نتيجة شيخوخة الفلاحين، وانقطاع السلسلة بين الأجيال، وتغير أنماط العيش والقيم.
لقد غادر الشباب القروي الأرض، لا رفضا لها، بل لغياب أفق اقتصادي كريم داخلها. ومن بقي منهم، وجد نفسه دون مواكبة أو تكوين أو دعم، في مجالات تتطلب معارف دقيقة لمواجهة قسوة المجال، خاصة في فترات البرد الشديد والتساقطات المطرية والثلجية. وقد أصبح الاعتماد على الأسواق بديلا قسريا عن الاكتفاء الذاتي، في مجالات كانت في السابق جزءا من الخبرة اليومية للسكان.
يأتي الجفاف الممتد، في سياق تغيرات مناخية متسارعة، ليضاعف هشاشة البادية، في غياب سياسات استباقية تحصن الساكنة وتؤهلها للتكيف مع المخاطر البيئية الجديدة. فمع كل موجة برد أو تساقطات استثنائية، تتكرر مشاهد المعاناة والاستغاثة، بما يكشف محدودية التدخلات وغياب رؤية مندمجة لحماية الإنسان والمجال.
للأسف الشديد، لا يكمن الإشكال في فقر الموارد، بل في ضعف تثمينها. فالمجالات القروية والجبلية تزخر بإمكانات واعدة: السياحة الإيكولوجية والجبلية، تثمين الأعشاب الطبية والعطرية، الموروث الثقافي اللامادي، والصناعة التقليدية ذات الجذور المحلية. غير أن هذه الإمكانات تظل معطلة في غياب مشاريع مهيكلة، وآليات دعم ملائمة، ومسارات إدماج حقيقية للشباب القروي.
لقد أكد النموذج التنموي الجديد، بوضوح، أن ضعف تثمين الموارد الترابية يمثل أحد مكامن الخلل في التنمية الوطنية، ودعا إلى اعتماد مقاربة ترابية مندمجة، تجعل من المجال رافعة للتنمية لا عبئا عليها. غير أن الهوة بين الخطاب والاستثمار الفعلي لا تزال واسعة، وهو ما يستدعي وقفة تقييم ومساءلة.
إن هذه المرافعة ليست شكوى، بل نداء مسؤولا يدعو إلى:
• بلورة سياسات عمومية ترابية موجهة خصيصا للبادية والجبال وساكنتها؛
• إدماج الشباب القروي في أنشطة اقتصادية مبتكرة ومستدامة؛
• الاستثمار في التأهيل البيئي والوقاية من المخاطر المناخية؛
• تثمين الموارد المحلية لفائدة شابات وشبان المناطق القروية باعتبارها ثروة وطنية لا هامشية.
إن إنقاذ البادية المغربية ليس ترفا تنمويا، بل شرطا من شروط العدالة المجالية، وضمانا لاستقرار اجتماعي وبيئي لا غنى عنه لمستقبل البلاد.
فهل تحظى هذه النداءات بما تستحقه من إنصات، وإرادة، وفعل؟
**عبد الله بولرباح














