ما حدث في المؤتمر الوطني الثاني عشر لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يتجاوز حدود الحياة التنظيمية الداخلية لحزب عريق؛ إنه مؤشر على خللٍ بنيوي في الثقافة السياسية المغربية برمّتها. فإعادة انتخاب القيادة نفسها للمرة الرابعة، تحت شعار “الاستمرارية والمسؤولية”، ليست مجرّد حدث حزبي، بل هي علامة على مأزق أعمق يخصّ علاقة الأحزاب المغربية بالديمقراطية كممارسة مؤسساتية لا كشعار.
1. من الاستمرارية إلى الجمود
في التجارب الديمقراطية الراسخة، تُعدّ “الاستمرارية” قيمة مؤسساتية مرتبطة بالمشروع والبرنامج، لا بالأشخاص. لكن في السياق المغربي، تحوّلت الكلمة إلى غطاءٍ لتبرير إعادة إنتاج نفس البنيات والوجوه، في مفارقة تعكس الخلط بين الوفاء للمبادئ والولاء للقيادات.
فالاستمرارية التي تُقدَّم بوصفها “ضمانة للاستقرار” تنتهي في الواقع إلى تجميد الدينامية السياسية، وتعطيل آلية التداول التي تُعتبر شرطًا أساسيًا في تطور أي تنظيم ديمقراطي. إن الحزب الذي لا يجدد نُخَبه محكوم بأن يتحول من فاعلٍ سياسي إلى كيانٍ إداري يكرر ذاته إلى أن يفقد معناه.
2. الزعامة كمعيقٍ للتطور الديمقراطي
أحد أبرز مظاهر الأزمة السياسية في المغرب هو التمسك بالزعامة بوصفها امتدادًا لثقافة السلطة أكثر منها لثقافة التمثيل. فالمشهد الحزبي لا يزال أسيرًا لمنطق “الزعيم الأبدي”، حيث تُختزل المؤسسة في شخص، وتُختزل الفكرة في خطابٍ فردي يحتكر الحقيقة باسم “الخبرة” أو “الشرعية التاريخية”.
هذا النمط يعيد إنتاج ما يسميه علم السياسة بـ الشخصنة السياسية (personnalisation du pouvoir)، أي اختزال الفعل السياسي في القيادة الفردية، مما يُفرغ العمل الحزبي من طابعه الجماعي، ويقوّض إمكانية المساءلة والتناوب الداخلي.
3. أزمة الديمقراطية داخل الأحزاب
إن الحديث عن الديمقراطية في الدولة يصبح بلا جدوى حين تكون الأحزاب نفسها غير ديمقراطية في بنيتها وممارستها. فكيف يمكن لأحزابٍ لا تعرف التداول أن تدافع عنه على مستوى المؤسسات الوطنية؟
تُظهر حالة الاتحاد الاشتراكي، ومعه عدد من الأحزاب الأخرى، أن المشكل ليس في غياب النصوص التنظيمية، بل في ضعف الثقافة الديمقراطية الداخلية، حيث تتحوّل المؤتمرات إلى طقوس شكلية تُبارك ما تقرره القيادة مسبقًا، وتُهمّش فيها القواعد والشباب بدعوى الحفاظ على الوحدة.
4. خلل السياسة في المغرب: بنية مغلقة ومجتمع متغيّر
الخلل السياسي في المغرب اليوم ليس فقط في الأشخاص الذين يحتكرون القرار، بل في البنية العامة للنظام الحزبي الذي فقد قدرته على إنتاج بدائل مقنعة. فقد أصبحت الأحزاب في معظمها أدوات لتدبير التوازنات لا فضاءاتٍ لتوليد الأفكار.
هذا الانسداد البنيوي جعل جزءًا واسعًا من الشباب المغربي يعيش انفصالًا وجدانيًا عن السياسة، لا بسبب اللامبالاة، بل بسبب شعوره بأن المشهد الحزبي مغلق، وأن الزعامات لا ترحل، وأن الوجوه لا تتغير مهما تغيرت الظروف.
5. نحو تجديد الثقافة السياسية
إن تجاوز هذه الأزمة يقتضي تحولًا في الوعي السياسي، لا مجرد تغيير في الأسماء. التداول على القيادة ليس إجراءً تنظيميا فحسب، بل هو مبدأ فلسفي وأخلاقي يقوم على الإيمان بأن الأفكار أقوى من الأفراد، وأن السياسة ليست مجالًا للخلود بل مساحة للمسؤولية المؤقتة.
إن المغرب بحاجة إلى أحزابٍ تؤمن بأن “الاستمرارية” الحقيقية تكمن في استمرار المشروع الديمقراطي، لا في استمرار الأشخاص الذين يعطلونه باسم الحفاظ عليه. فالإصلاح لا يبدأ من الدولة فقط، بل من داخل التنظيمات التي تُفترض فيها أن تكون مدارس في الديمقراطية لا إدارات للولاء.
خاتمة
إن ما جرى في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي يختصر أزمة السياسة في المغرب: نظام حزبي بلا تجديد، ومجتمع يبحث عن تمثيل حقيقي. فحين تتحول الزعامة إلى غاية، تموت السياسة كفعلٍ نقدي وتشاركي. ولا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بإحياء فكرة التداول كقيمة مؤسسة، لا كمطلب ظرفي، وبربط “الاستمرارية” بالمشروع الديمقراطي ذاته، لا بأسماءٍ صارت تتكرّر أكثر مما تُنتج.














