كانت الساعة تشير إلى حوالي الساعة الثامنة والنصف حين غادرنا الحسيمة صباح يوم الأحد 28 شتنبر 2025 باتجاه جبال صنهاجة المهيبة، بغية إنجاز مهمة جمعوية. ونحن على مشارف مدينة “تارجيست” انعطفنا يسارا عبر جماعة زرقت ، حيث استقبلتنا تضاريس تحمل في ثناياها عبقا من تاريخ قبيلة صنهاجة أسراير . رويدا رويدا كانت سيارتنا تتسلل بمرونة بين غابات الأرز الخضراء، في حين كانت مخيلتنا تستحضر كيف تزدان شتاء حين ترتدي وشاحها الثلجي الأبيض، فتكون عروسا عذراء فاتنة الجمال.
بعد اجتيازنا لحوالي مئة كيلومتر تقريبا ، نصل إلى ” باب أزطوط ” . وكلمة “أزطوط ” تعني طائرا جبليا عرفت به المنطقة، فكان أن حملت هذه “البقعة “حيث السوق الأسبوعي اسمه.
قبالة باب جماعة بني بشير ركنا سيارتنا لنركب سيارة تصنف ضمن ما يعرف بالنقل السري، والحال أنه في هذه الجبال المنسية لا بديل لفك عزلة التنقل سوى الاستعانة بأسطول النقل السري.
عبر مسلك طرقي مغبر، كان “محمد” السائق الماهر يداعب بأنامله مقود سيارته ليعارك خطر منعرجات خطيرة. مثل هذه الرحلة لا ينصح بها لضعاف القلوب، أو لمن لا قدرة لهم / لهن على تحمل هوس المرتفعات. فكأنك على جناح طائرة يبدو لك القاع في الأسفل مرعبا. تتكهن باحتمالات المصير إن تهور السائق ، وتستبق الأحداث في حبك إجابة لسؤال ما العمل إن لم تستجب فرامل السيارة في تخفيف دوران العجلات في موقف ما ؟ وقد يتضاعف الاحتمال باستحضار فصل الشتاء، حيث الأمطار والثلوج وممارسة رياضة التزحلق الحر. هناك في الأسفل المخيف الرهيب تتراءى لك بيوت ومنازل بسيطة ، أشجار غابوية ، وبعض من حقول ” التريكيتا ” ” القنب الهندي الهجين ” . مشدوهين نخترق دواويرا معزولة، بتهمة بعدها عن المركز صدر حكم حرمانها أبسط الخدمات المدنية، أتذكر منها دوار ” فدان المانة ” وربما كان أصل التسمية قديما بفدان الأمانة كما ذكر لنا مرافقنا في الرحلة . بعد زهاء ساعة تقريبا نصل إلى وادي ” أحميدو” حيث مفترق الطرق ، احداها تؤدي إلى تطياشت المدشر المعلق في ثنايا جبل شاهق . هنا اختار سائقنا ” محمد” مسارا يقودنا إلى مدشر آخر ، وحتى نعبر الوادي للضفة الأخرى كان لامناص لنا من المرور عبر قنطرة عجيبة يحكى أنها أنجزت بميزانية ضخمة ، فتستغرب لكيفية هدر المال العمومي بهذه الطريقة التي تجعلك تفقد التوازن بين السخرية والحسرة من بناء يبدو في هندسته كلعبة في يد طفل …وصدق من قال : ” أمدير فلاحي ..القنطرة كذبة..الرملة ترابة..الحديد رقيقة ”
بعد أن قطعنا أكثر من عشر كلمترات وصلنا أخيرا إلى دوار ” تفركة ” . للإشارة أغلب أسماء المداشر بهذه المنطقة أمازيغية، رغم أن بعض الساكنة لا يتحدثون اللغة الأمازيغية. كان في استقبالنا بعض من ساكنة الدوار، أناس بسطاء، بابتسامة بدوية صادقة وعفوية يرحبون بالزوار ، الكرم والجود من شيمهم . دعونا إلى جلسة شاي حيث تبادلنا خلالها أطراف الحديث ، فكان حديثا ذا شجون تمحور حول الموروث الثقافي للمنطقة ، والعادات والتقاليد ، وبعض من حكايات عن مقاومة المستعمر ، وعن حضارات قديمة مازالت هذه الجبال شاهدة على عظمتها .
من خلاصات جلستنا مع الساكنة أن المنطقة تئن في صمت، بعد أن ضاقت من الإهمال والتهميش الذي عانت منه منذ سنوات، المرفق الوحيد بالمدشر هو المدرسة، في حين تغيب المرافق الأخرى. أما المسالك الطرقية فهي غير معبدة، وما إن تتساقط الأمطار أو الثلوج حتى تفقد معالمها ، فينفصل المدشر عن العالم ، ويصبح الكل معتقلا في سجن العزلة الجبرية. ومما زاد الأمر تعقيدا هو التقسيم الإداري حيث أن المدشر أقرب جغرافيا إلى تاونات من الحسيمة ، حتى السوق الأسبوعي الأقرب إلى الساكنة هو خميس مرنيسة أو ما يعرف بجماعة طهر السوق. وتأمل ساكنة المنطقة تحسين أوضاعها الإدارية خصوصا إن أحدثت عمالة تارجيست حتى يسهل الولوج إلى الخدمات الأساسية.
وبعيدا عن المعاناة، تنعم المنطقة بغطاء غابوي متميز مكون من أشجار اللوز والزيتون والجوز والخروب ، وتعرف المنتجات الفلاحية حسب شهادة الجميع بالجودة الطبيعية العالية، خاصة زيت الزيتون والعسل الحر والجوز واللوز، مما يتيح فرصة استثمار هذه المؤهلات لتنمية محلية حقيقية ومستدامة ، طبعا إن تضافرت الجهود خصوصا في المجالين السياحي والإيكولوجي، خصوصا للباحثين والباحثات عن الطبيعة والهدوء …
حل المساء فكانت العودة نحو الديار، خيم ضباب كثيف ، تصاحبه قطرات مطرية ، وحده السائق محمد كان يقتفي بكل احترافية أثر طريق اعتاده وسط هذه الجبال … ولحديثنا بقية في زيارة قادمة لامحالة.
** خالد الملاحظ














