في إطار استعادة الذاكرة الجمعية لمدينتنا الحسيمة، نستحضر اليوم بعض المشاهد / الظواهر التي طبعت أواخر ستينيات وبدايات سبعينيات القرن الماضي، والتي لا تزال حاضرة في وجدان من عاشوا تلك الحقبة، بكل ما فيها من طرافة وتوتر وتعايش خاص.
ابرزها : الصراع الشعبي الذي استمر لعقود بين أبناء باريو، بتفرعاته تحت اسم “صحاب باريو”، وبين أبناء حي دهار نمسعوذ الذين أُطلق عليهم ، تهكمًا ، “صحاب السوق يشان”.
ومن المؤسف أن هذا الصراع بلغ في أحيان كثيرة مستويات دموية خطيرة متخذا لنفسه تمظهرات شتى منها :
أولًا: الشجارات الجماعية الميدانية : بحيث كانت هذه المواجهات تندلع بين الطرفين في مواسم متقطعة، معتمدة أساسًا على التراشق بالحجارة. ، سواء بالأيدي مباشرة أو عبر مجانِيق (رْوُوطَّافَاثْ) تُصنع محليًا وتُستعمل لقذف الحجارة لمسافات بعيدة، متسببةً في إصابات متفاوتة الخطورة (في العتاد والأجساد هههه)
وكانت جل هذه المعارك تُخاض في منطقة “الصفصاف”، وتحديدًا في المنطقة الحدود ية الممتدة من موقع (حجرة اللقاء) بحي المنزه الحالي إلى حدود المديرية الإقليمية للتربية والتعليم حاليًا ، وياما انخرطنا في أوارها ونحن أطفالا أثناء خروجنا من المدارس مساء !
ورغم حدّتها، فإن هذه المعارك كانت تخضع لنوع من التنظيم الداخلي غير المعلن، يحكمه “قانون المدّ والجزر” حسب دقة التخطيط وحنكة القيادات الميدانية. وغالبًا ما كانت تسفر عن إصابات وحجز الرهائن ، سرعان ما تليها جولات المفاوضات التي تفضي في الغالب الأعم من الى هدنة مؤقتة بحصاد لا غالب ولا مغلوب !
فإذا كانت هذه المعركة الجماعية تستقطب مشاركة مختلف الفئات العمرية ، من أطفال وبالغين …فإن معارك أخرى كانت تخاض على الهامش ذات طابع خاص .
ثانيًا: الشجارات الفردية
وفيها برزت أسماء بعينها، ظلّت محفورة في الذاكرة، شكلت مصدر اعتزاز وافتخار كل حي بأبطاله الذين برعوا في العراك والمواجهات الفردية.
وهي أسماء كثيرة ، نذكر منها:
على سبيل الحصر:
. في (حي) باريو:
• ع المالك العلالي المعروف ب(مالك العوامية)
• المرحوم سفيان
• المرحوم محمد المرنيسي (محمد نرفقي)
• تيتيف
• خميس وآخرون …
. في حي السوق:
• المرحوم محمد املاح (الگزار) وإخوته
• المرحوم أحمد حميد ( أحمد نمازوق)
• أملاح محمادي(باديش )
. لمنوار
. المرحوم ميمون لحشايشي
والمرحوم ا محمذ الحكة، ابن مدينة إمزورن قبل أن يستقر بحي السوق ، ثم انتقاله لاحقًا إلى باريو حيث توفي رحمه الله .
دون ذكر أسماء أخرى من نفس الطينة والجيل منتمية لحي ماطاضيرو وكالا بونيتا ، كعبد القادر محجوب(شبوت) وحي مالاگا ، كالمرحومان : سليمان صوروبيح وحسن نموحا و معهما المرحوم بنعبد الكريم محمد (شحشاح) وغيرهم كثير..
ثالثًا: ساحات المعارك ومواقعها:
كانت أغلب هذه الشجارات الفردية تحدث ليلا في المواقع التالية:
• حانات الميناء: خصوصًا حانة محمد نيامنة وعلال وحانة خوانيتو ..
• مقاهي ساحة الريف: مثل فلوريدو، مقهى نشريف، مقهى نمزيان، ومقهى إيكونوميكو
• حفلات ومهرجانات الأعراس الصيفية، حيث كانت النزاعات تتفاقم، وتنتهي بما يسميه الأهالي ب ” ثَازِّيثْ نَرْفُوجَثْ”، أي “إفساد أجواء الفُرْجة والاحتفال.
رابعًا: معركة الأبطال/ الرموز : من بين كل تلك المواجهات، تبقى الأكثر شهرة وتأثيرًا وتداولاً تلك التي تنشب بين :
مالك العوامية ومحمد الگزار، إذ كان عنفها وصرامتها وثقل نتائجها تتناقلها أحاديث الصباح في الأزقة والمقاهي والمنازل والمدارس، خاصة بيننا نحن الأطفال المتابعين لحبكتها بانفعال وحماس وشوق قل نظيره كلٌّ حسب انتمائه المجالي /الجغرافي: باريو أو السوق.
خامسًا: عندما يتحد الطرفان ضد “الخصم الخارجي” .
فرغم احتداد الصراع ، كما أسلفنا ، بين أبناء الحيين، إلا أن لحظات من التضامن كانت تنشأ بينهما كلما تعلق الأمر بمواجهة “الخصم الخارجي” متمثلًا في بعض أفراد من كنا نسميهم ب “إقَشْلِيوَنْ” ولاسيما الذين اعتادوا منهم سلوك الاستفزاز …
في مثل هذه المواقف ، كان أبناء باريو والسوق يتحدون لمواجهة هؤلاء، في معارك ضارية غير متكافئة عدة وعددا … وغالبا ما يكون من أبطال هذه المواجهات : الگزار أومالك العوامية وبعض المقربين الذين ابتلوا هذه العناصر هم وفرقتهم patrouille المكلفة بمهمة مراقبة تحركاتهم في مختلف مواقع المدينة ..
والتاريخ يشهد على معركتين ضاريتين من هذا الطراز الأخير : احداها قرب مخبرة مالولو Maloloالتي واجه فيها المرحوم محمد الگزار وابن أخيه احميدوش نشعيب أكثر من عشرة أفراد من هؤلاء الذين ما لبثوا حتى ولّوا الأدبار خاسرين…
وثانيهما : جرت أطوارها على حافة رصيف رسو البواخر بالميناء ، والتي كان بطلاها هذه المرة عبد الحق وصديقه الملقب ب(هولند) رحمه الله ، (وهو نفسه من حكى لي تفاصيلها) معلقا:” كان عبد الحق يسدد اللكمات القوية لهؤلاء وأنا أتمم المهمة بإلقائهم في البحر الذي أصبح سطحه مغطى بقبعاتهم البيضاء كأنها طيور النورس …”
رحم الله المتوفين من هؤلاء وغفر لي ولهم فيما أنا عكرته من صفو هذه الذكريات التي تعيد إلى الأذهان طبيعة ما انشغل به جزء من جيل تلك المرحلة من صراعات واقعية ووهمية ، في علاقة بحضور أو غياب دور الساهرين على حفظ الأمن و هدوء المدينة في كل ما حدث؟
وما بين التراشق بالحجارة، والمناوشات في المقاهي والحانات، ومعارك الأعراس، تبقى تلك المرحلة من تاريخ الحسيمة مليئة بالمفارقات: صراعات حادة لكنها محكومة بأعراف وتقاليد …وعداوات لا تلبث أن تتحول إلى تحالفات عند الحاجة.
تلك كانت محاولة متواضعة لرصد صفحة من تاريخ اجتماعي لا نجده في كتب المؤرخين، لكنه يظل محفورًا في ذاكرة من عاشه، بألمه ودفئه، بشغبه ونبله./.
محمد الزياني