رحل الرحباني، ولم تأذن لنا الكلمات أن نودّعه كما يليق بكبيرٍ حمل في صوته ظلّ أرز لبنان، وفي ألحانه رعشة الزمن الجميل. خبا الضوء من على دروب كانت تضيئها موسيقاه، وانكفأ الليل على صمته الثقيل، حين صمتت أنامل من علّمتنا كيف تبكي الأوتار دون أن تئنّ، وكيف تضحك الأرض حين تلامسها نغمة نادرة الصدق.
رحل الرجل الذي لم يكن مجرد موسيقي، بل كان ذاكرة وطن، ووجدان أمة، وقامة سامقة في تاريخ الفن الراقي. باسم الرحباني، ظل اسمه مقترنا بالجمال، بالجدة، بالعبقرية التي تتعالى على الزمن. كان فنانا يؤمن بأن الموسيقى ليست للتسلية، بل للسمو، وأن الأغنية ليست لحظة عابرة بل نص شعري مشبع برؤية إنسانية، وقضية قومية، وأمل لا يذبل.
لقد جمع الرحباني بين الأصالة والتجريب، بين الفلكلور والحداثة، فأخرج لنا فنا نبيلا خاليا من الزيف، محمّلا بأحزان الشرق وبفرحه العنيد. وفي تعاونه مع فيروز، تلك السيدة التي أصبحت مع الرحابنة وطنًا متنقلاً، نسج ملاحم غنائية كانت أقرب إلى الشعر المسرحي، فأعطى للمسرح بعدا جديدا، وصوّتَ للهمّ الإنساني في أرقى أشكاله.
لم يكن الراحل مجرد ملحن، بل كان مفكرًا موسيقيًا، مسكونًا بالأسئلة الوجودية، وبالشأن العام. آمن بالمقاومة، لا بالشعارات، وبالحرية لا بالخطابة، وبالإنسان لا بالإيديولوجيا الضيقة. لهذا ظل فنه يتجاوز الحدود، ويعبُر الطوائف، ويسكن الذاكرة العربية الجمعية بعمق ورسوخ نادرين.
برحيل الرحباني، يُطوى فصلٌ من فصول الحلم ، ويتوارى رجل كان من القلائل الذين أعادوا صياغة الذائقة الراقية بلغة الموسيقى. لقد أعطى لجبال لبنان صوتا، ولشجر الزيتون تراتيل، وللحب صلاة، وللحرب أنشودة، وللحياة فلسفة.
نم قرير العين يا من أعطيت الكثير دون أن تنتظر جزاء. يكفيك أن كل نغمة لحّنتها، وكل لحن كتبته بدمعك، سيظل صداه حيًا في أرواحنا، كلما هزّنا الحنين، أو عصفت بنا المآسي. سيبقى اسمك محفورًا في أرشيف الطرب، وفي دفاتر الشعوب التي عرفت من خلالك معنى أن يكون الفن التزامًا ومسؤولية.
سلامًا عليك، يوم كنت بيننا، ويوم رحلت، ويوم تبعث خالداً في ذاكرة الفن الملتزم.
ابو علي بلمزيان