ما يجري اليوم في شوارع الجنوب، ولا سيما في أكادير ومحيطها، ليس مجرد احتجاج عابر أو حراك اجتماعي محدود الأفق كما يحاول إعلام السلطة تصويره، بل هو انتقال نوعي نحو شكل جديد من المواجهة يقترب من مفهوم الانتفاضة الشعبية. هذه الانتفاضة تستحضر في وجداننا ما حدث في سنوات 1981 و1984 و1990 حين هزت فاس والدار البيضاء ومدن الشمال والريف بأمواج الغضب، وسقط الشهداء على مذبح الخبز والكرامة. التاريخ يعود ولكن في سياق أشد قسوة، إذ تراكمت أزمات التهميش والفقر وانسداد الأفق، وغابت كل الوسائط التي كان يمكن أن تؤطر الغضب وتمنحه معنى سياسياً واضحاً.
الذين خرجوا إلى الشوارع اليوم ليسوا فقط شباب “جيل Z” الذين أطلقوا الشرارة الأولى. هؤلاء كانوا الشرارة ثم تراجعوا إلى الوراء، تاركين المكان لطبقات مسحوقة، مهمشة، حُشرت على الهامش لعقود طويلة. الجماهير التي اقتحمت المدن ليست تلك التي اعتادت حضور المهرجانات أو الوقوف في طوابير الوعود الانتخابية الكاذبة، بل هي “جيش الهامش”، المهمشون الذين لم يعودوا يجدون ما يخسرونه، فقرروا اقتحام المراكز الحضرية وإعلان تمردهم المباشر على كل الأوهام.
هذه الحركة الاجتماعية الجديدة تجمع بين خصائص الانتفاضة الحضرية من جهة، وبين زحف الهامش على المدن من جهة أخرى. إنها ليست انتفاضة خبز فقط، ولا انتفاضة مطلبية محدودة، بل صرخة جماعية ضد منظومة اجتماعية خانقة. لقد آن أوان الاعتراف بأن سياسات الدولة النيوليبرالية، الممزوجة بالفساد المفضوح والتحالف بين الرأسمال الريعي والسلطة، دفعت المجتمع إلى حافة الانفجار. فالمسألة لم تعد تتعلق بزيادة سعر مادة أساسية أو تجميد الأجور، بل تتعلق بوجود الناس ذاته، بكرامتهم، بحدهم الأدنى للعيش.
هؤلاء الذين يقتحمون المدن اليوم يشبهون أولئك الذين خرجوا في 81 و84، لكنهم أشد مرارة لأنهم ولدوا ونشأوا في ظل عقود من الوعود الفارغة. الدولة التي كانت تقول “ننتظر ثمار النمو” تحولت إلى آلة لامتصاص خيرات البلاد وتوزيعها بين نفس الدوائر الضيقة. النخب التي تدعي تمثيل الشعب تآكلت وفقدت مصداقيتها، وأحزاب المعارضة تحولت إلى ديكور بائس داخل مسرحية سياسية فقدت كل معنى. في هذا الفراغ السياسي ولدت ثورة الهامش.
منهج التحليل الماركسي يعلمنا أن كل بنية اجتماعية تحمل في أحشائها تناقضاتها المدمرة. المغرب اليوم يعيش هذه اللحظة: تناقض بين أقلية راكمت ثروات فاحشة عبر الريع، والفساد، والصفقات المشبوهة، وبين أغلبية مسحوقة محرومة من أبسط حقوقها في الصحة والتعليم والشغل والسكن. حين تصل هذه التناقضات إلى حدها الأقصى، ينفجر الصراع الطبقي في شكل انتفاضات عفوية قد تتحول إلى ثورات إذا وجدت التنظيم الثوري الواعي. وما نعيشه اليوم هو تعبير عن هذا الانفجار.
المهمشون الذين يقتحمون شوارع أكادير اليوم ليسوا “غوغاء” كما يصفهم إعلام المخزن، بل هم الوجه الحقيقي لمغرب الظل، مغرب القرى المحاصرة بالعطش، مغرب الشباب العاطل الذي يبيع أحلامه على قوارب الموت، مغرب النساء اللواتي يشتغلن خادمات بأجور مهينة، مغرب “العمال الأشباح” في الضيعات والورشات بدون حقوق. هؤلاء جميعاً وجدوا أنفسهم اليوم في قلب المدن يرفعون صرخة واحدة: كفى من الظلم.
لكن خطورة اللحظة تكمن في أن الأمور لن تهدأ الآن. لقد دخلنا مرحلة جديدة ستترك تداعيات سياسية عميقة. لن تستطيع الدولة بعد اليوم أن تسوق خطاب التهدئة، ولا أن تختبئ وراء شعارات المونديال أو الوعود الاستثمارية الفارغة. الشرعية اهتزت، والثقة تبخرت، والهوة بين الحاكمين والمحكومين اتسعت إلى أقصى حد.
في كل انتفاضة تاريخية بالمغرب، حاول النظام أن يلتف على الغضب بالقمع أو بالوعود، لكن القمع يولد مقاومة، والوعود تتحول إلى خديعة مكشوفة. هذه المرة يبدو أن الشعب تجاوز الخطاب الرسمي كله. لم يعد يصدق أحداً، ولم يعد ينتظر شيئاً من الدولة ولا من المعارضة. حتى الشباب الذين بدأوا الاحتجاج انسحبوا، تاركين الساحة للهامش الثائر، كأنهم يعلنون أن دورهم اقتصر على إشعال النار، وأن الباقي مهمة جيل آخر أكثر شراسة.
إننا نعيش اليوم لحظة تاريخية لا تشبه ما قبلها. ثورة الهامش وهي تقتحم المدن تضع الجميع أمام مسؤولياتهم: الدولة التي بنت مشروعيتها على “الاستقرار” تواجه انهيار هذا الاستقرار، النخب السياسية التي بنت شرعيتها على “التمثيل” تواجه إفلاساً شاملاً، واليسار الذي ادعى الانحياز للمقهورين يجد نفسه مطالباً بأن يستعيد المبادرة أو يندثر.
منهجية التحليل النقدي تفرض أن نسمي الأشياء بأسمائها: ما يجري ليس مجرد اضطرابات بل هو تمرين على الثورة، وليس مجرد غضب شعبي بل بداية انهيار جدار الصمت. الهامش الذي كان يصرخ من بعيد، جاء اليوم إلى قلب المدن، إلى الساحات، إلى الشوارع، ليقول: “نحن هنا، لن نصمت بعد الآن”.
اليسار الراديكالي مطالب اليوم بأن يكون صوت هذا الهامش، أن يمنحه وعياً سياسياً يقيه من الانزلاق إلى العدمية أو التخريب الأعمى. فالثورة بدون وعي تتحول إلى فوضى، والانتفاضة بدون أفق تتحول إلى مجرد موجة غضب. التحدي اليوم هو تحويل هذا الغضب إلى قوة سياسية قادرة على فرض التغيير، على إعادة توزيع الثروة، وعلى كنس دولة الريع والفساد.
إن ما يحدث في أكادير اليوم ليس نهاية الطريق، بل بدايته. إنها الشرارة التي قد تمتد إلى مدن أخرى، إنها البوابة نحو مرحلة جديدة من الصراع الاجتماعي في المغرب. ما بعد هذه الانتفاضة لن يكون كما قبلها. لقد دخلنا زمناً جديداً، زمن ثورة الهامش، زمن اقتحام المدن، زمن الحقيقة العارية التي لا تغطيها كل الأكاذيب الرسمية.
ابوعلي بلمزيان














