يعد الخطاب الملكي في المغرب من أهم الآليات الرسمية لتوجيه السياسات العامة وبلورة الرؤية الاستراتيجية للدولة، ويأتي خطاب عيد العرش لسنة 2024 كمناسبة لتسليط الضوء على القضايا الكبرى التي تشغل صناع القرار، وعلى رأسها الجانب الاقتصادي الذي شغل حيزًا مهمًا من الخطاب الملكي. هذا النص يهدف إلى تقديم تحليل نقدي لهذا الجانب، من خلال مساءلة مضامينه، وربطها بالمعطيات الاقتصادية الراهنة، وقياس مدى الانسجام بين الطموحات المعبر عنها والواقع المعيشي للمغاربة.
الخطاب الملكي سلط الضوء على مجموعة من الإنجازات الاقتصادية، كان أبرزها الحفاظ على نسبة نمو وصفت بالمهمة والمنتظمة رغم الأزمات الدولية والجفاف. فعلا، تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن معدل النمو الاقتصادي بلغ 3.2٪ سنة 2024 مع توقعات ببلوغه 3.6٪ سنة 2025، وهي نسب تعكس صمودا نسبيا، لكنها تبقى دون الطموح المحدد في النموذج التنموي الجديد الذي يستهدف 6٪. كما أن اعتماد الاقتصاد المغربي على القطاع الفلاحي بنسبة تقارب 14٪ من الناتج الداخلي يجعله هشا أمام تقلبات المناخ. ومن النقاط الإيجابية الأخرى التي أبرزها الخطاب، نمو الصادرات الصناعية، خصوصا في قطاعات السيارات والطيران والطاقات المتجددة. فعلى سبيل المثال، أصبحت صناعة السيارات تمثل حوالي 24٪ من مجموع الصادرات الوطنية، مما يعكس نجاح المغرب في جذب استثمارات خارجية نوعية. غير أن القيمة المضافة المحلية تبقى محدودة، نتيجة الاعتماد الكبير على استيراد المكونات، وهو ما يقلل من أثر هذه النجاحات على الدورة الاقتصادية الوطنية.
أما في ما يتعلق بالبنية التحتية، فقد أشار الخطاب إلى مشاريع كبرى مثل القطار فائق السرعة “البراق” والمخططات المائية والغذائية. لا جدال في أن هذه المشاريع تدعم البنية التحتية، لكنها تطرح أيضا تساؤلات حول أولويات الميزانية العمومية، خصوصا مع استمرار ضعف الاستثمار في قطاعات اجتماعية أساسية مثل التعليم والصحة، مما يطرح إشكالية التوازن في توزيع الموارد.
الخطاب لم يغفل الإقرار بوجود تحديات اقتصادية واجتماعية عميقة، وعلى رأسها الفوارق المجالية بين الحواضر والقرى. رغم تراجع الفقر متعدد الأبعاد من 11.9٪ إلى 6.8٪ خلال العقد الأخير، إلا أن الفقر النقدي ما زال مرتفعا، لا سيما في المناطق القروية التي تسجل معدلات بطالة تصل إلى 20٪، بالإضافة إلى ضعف ولوج الساكنة إلى خدمات أساسية ذات جودة، في مقدمتها التعليم والرعاية الصحية. أما في ما يخص مؤشر التنمية البشرية، فقد تم التأكيد على دخول المغرب ضمن فئة الدول ذات “التنمية البشرية العالية”، لكن الواقع يكشف أن التحسن في المؤشر العام لم يصاحبه تحسن ملموس في جودة الخدمات، حيث لا تزال البلاد تحتل المرتبة 123 عالميًا بحسب تقرير سنة 2023، ما يبرز حجم التحديات البنيوية.
الخطاب لم يول الاهتمام الكافي لبعض القضايا الاقتصادية الملحّة التي تتطلب معالجة دقيقة، ومن بينها أزمة البطالة التي بلغت نسبتها 13.3٪ سنة 2024، وارتفعت بين الشباب إلى 22٪. ورغم إحداث 282 ألف منصب شغل في الربع الأول من سنة 2025، إلا أن ذلك لا يكفي لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الباحثين عن العمل. كما أن الاقتصاد غير المهيكل، الذي يمثل حوالي 30٪ من الناتج الداخلي، لا يزال يشكل عائقًا أمام العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، في ظل غياب الحماية الاجتماعية للعاملين فيه وحرمان الدولة من موارد ضريبية مهمة. ومن التحديات الأخرى، ارتفاع المديونية العمومية التي بلغت 70٪ من الناتج الداخلي نهاية 2024، مع توقعات بوصولها إلى 78.9٪ في 2026، وهي مستويات تستدعي مراقبة دقيقة، إلى جانب التضخم الذي شهد تذبذبا من 2.2٪ في بداية 2025 ليستقر عند 0.4٪ في يونيو، دون أن يخفف ذلك من أثره على القدرة الشرائية للفئات الهشة.
الرؤية المستقبلية التي طرحها الخطاب تستند إلى مقاربتين أساسيتين: الجهوية المتقدمة وتشجيع الاستثمار المحلي. فقد دعا الخطاب إلى تنمية مجالية مندمجة، واستند إلى مخرجات المؤتمر الوطني الثاني حول الجهوية المنعقد في طنجة نهاية 2024. إلا أن الواقع يظهر تباطؤًا في تفعيل هذه الجهوية، وضعفًا في تمويل الجماعات الترابية، ووجود عراقيل إدارية وهيكلية تؤثر على تنفيذ البرامج التنموية. وبالنسبة للاستثمار، ورغم تقدم المغرب في مؤشرات عالمية مثل “سهولة ممارسة الأعمال” و”Business Ready”، إلا أن البيروقراطية والفساد الإداري لا يزالان يشكلان عائقا أمام الفاعلين الاقتصاديين، ما يتطلب إرادة سياسية قوية لإصلاح أعمق.
في الختام، يتبين أن الخطاب قدم صورة تفاؤلية تتخللها اعترافات محدودة بالتحديات، لكنه لم يتطرق بوضوح إلى فجوات بنيوية تعرقل تحقيق النموذج التنموي الجديد. فمؤشرات البطالة، وضعف البنية الاجتماعية، واستمرار الاقتصاد غير المهيكل، والتفاوتات المجالية، كلها تحديات تتطلب معالجة هيكلية عاجلة.
يبقى الخطاب الملكي وثيقة مرجعية تستلزم قراءة نقدية بناءة، تربط بين الطموح السياسي والحقائق الاقتصادية، من أجل تحقيق تنمية شاملة تراعي التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
الياس المرابط