تشكل الجالية المغربية المقيمة بالخارج عنصرا اقتصاديا مهما خلال الصيف، بفضل قدرتها الشرائية المرتفعة نسبيا. غير أن هذا المعطى، وإن كان إيجابيا من حيث تنشيط السوق، يخلق أيضا تضخما داخليا في الأسعار. وساهم في تحولات سكانية عميقة: تركز سكاني مؤقت، ضغط على البنيات التحتية، واختلال في التركيبة الاجتماعية. ويؤدي هذا إلى نوع من الاغتراب لدى السكان الأصليين، الذين يشعرون بأنهم غرباء داخل مدينتهم، خاصة حين تدار الموارد والخدمات وفق منطق الربح الموسمي بدل الخدمة العمومية
وهو ما يخلق حالة من التوتر الاجتماعي والشعور بالتمييز داخل مجتمعهم نفسه.
تؤدي هذه الديناميات إلى تآكل تدريجي لقيم الضيافة والمشاركة التي ميزت المجتمع الريفي، لصالح منطق الربح السريع. ومع تصاعد الضغوط البيئية والاجتماعية، يمكن أن تنشأ ظاهرة “السخط على السياحة” (tourism backlash)، كما وقع في مدن كبرى مثل برشلونة أو أمستردام، حيث بدأ السكان في مقاومة السياحة بسبب آثارها السلبية على نمط حياتهم.
السياحة الموسمية تخلق ايضا نمطا خاصا من التشغيل، يتمثل في فئة من العمال الموسميين، أغلبهم شباب في طور الإدماج المهني، إلى جانب مهنيين سياحيين محدودي الدخل، وسكان محليين يمارسون عدة أنشطة في آن واحد. هؤلاء العمال يواجهون ظروفا قاسية: غياب الاستقرار، صعوبة السكن، وغياب التكوين المهني. بحسب دراسة تعود إلى 2023، فإن 40% من الراغبين في عمل موسمي لا يستطيعون توقيع عقود عمل بسبب بعد السكن وغيابه، ما يضعف مردوديتهم ويعمق هشاشتهم.
نحو رؤية شمولية ومستدامة
إن الخروج من الحلقة المفرغة التي تعيشها السياحة في بعض المدن، وعلى رأسها الحسيمة، يتطلب رؤية سياحية متكاملة بعيدة عن منطق العشوائية والموسمية. لا يكفي الاعتماد على شهري يوليوز وغشت وانتظار الجالية، بل يجب التفكير في إعادة بناء منظومة سياحية مرنة، متنوعة ومستدامة.
أول خطوة في هذا الاتجاه هي تنويع العرض السياحي. فالمنطقة تزخر بمؤهلات طبيعية وثقافية قادرة على جذب زوار طيلة السنة، وليس فقط في موسم الاصطياف. يمكن استثمار المنتزه الوطني بالحسيمة لتطوير السياحة البيئية والجبيلة، وتشجيع مبادرات السياحة الثقافية من خلال دعم الفنون المحلية، التراث الريفي، والأنشطة التعليمية والتكوينية. كما أن استقطاب المؤتمرات العلمية والملتقيات الوطنية يمكن أن يشكل رافعة لتنشيط المدينة خارج الموسم التقليدي.
ثانيا ، لا بد من إرساء آليات صارمة وشفافة لتنظيم الأسعار وضمان جودة الخدمات. هذا يشمل إنشاء منصات رقمية تعرض الأسعار بشكل علني، وتسمح للسياح بالإبلاغ عن أي تجاوزات، إلى جانب مراكز للاستقبال والإرشاد تضمن تواصلا انسانيا ومهنيا مع الزائر. التنظيم لا يجب أن يكون قمعيا، بل تشاركيا، يشرك المهنيين المحليين في صياغة إطار عادل للجميع.
من الضروري أيضا تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية في توزيع منافع السياحة. لا معنى لتنمية لا تنعكس على سكان المنطقة، بل يجب أن يشعر المواطن المحلي بأن السياحة فرصة لا عبء. ويمكن تفعيل ذلك من خلال اعتماد تخفيضات في بعض الخدمات السياحية للسكان المحليين ، وتشجيع تشغيل الشباب المحلي في مشاريع تشتغل على مدار العام، وليس فقط خلال الموسم.
كذلك، يجب إعادة تعريف علاقة الجالية المغربية المقيمة بالخارج بالمدينة. فبدل أن تكون مجرد مستهلكة موسمية، ينبغي تشجيعها على الاستثمار في مشاريع سياحية مستدامة، وتمكينها من المساهمة في رسم توجهات التنمية من خلال آليات تشاركية، وفضاءات تشاور دائمة بين أبناء المدينة داخل الوطن وخارجه.
من جهة أخرى، ينبغي التفكير في دعم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني داخل السياحة، عبر تحفيز التعاونيات النسائية والحرفية والفلاحية لتقديم منتجات وخدمات للسياح، بما يضمن توزيعا أوسع للعائدات، ويحافظ على خصوصيات المدينة الثقافية والاجتماعية.
واخيرا ، لا يمكن الحديث عن سياحة مستدامة دون تأهيل البنية التحتية، من النقل الجوي والبري إلى الفضاءات العمومية، مرورا بجمالية المدينة ونظافتها. تحسين تجربة الزائر يبدأ من لحظة وصوله إلى المدينة، وليس فقط من الخدمة المقدمة في الفندق أو المطعم.
باختصار، الأمر لا يتعلق برفض السياحة أو الانغلاق، بل بإعادة تنظيمها على أسس تحترم الإنسان والمجال، وتضمن استمرارية النشاط واستفادة المجتمع المحلي منه، في إطار رؤية تراعي العدالة المجالية وتُحسن التوزيع الزمني للمواسم السياحية.
** الياس المرابط