اليوم، أدركت تمامًا معنى ما قصده جلالة الملك حين قال:
“إن المرافق العمومية تعاني من ضعف في الأداء، وفي جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنين، وهي تعاني، أيضًا، من التعقيد والبطء، ومن غياب روح المسؤولية في التعامل مع المرتفقين.”
منذ أسبوعين تقريبًا، أرسل لي صديق من بلجيكا آلة طبية صغيرة، تُستعمل في علاج أسنان الحيوانات داخل مصحتنا البيطرية. آلة بسيطة، قانونية، وموجهة فقط لتحسين خدماتنا الطبية.
حين وصلت إلى ميناء طنجة المتوسط، احتجزتها إدارة الجمارك في انتظار استكمال وثائق التعشير. أمر طبيعي ومفهوم، فكل دولة تنظم عملية دخول الأجهزة عبر مساطرها القانونية.
لكن ما لم أكن أتوقعه هو أن يتحول هذا الإجراء الإداري البسيط إلى رحلة عبثية، تكشف الوجه البائس لبعض إداراتنا، وتفضح ما وصفه جلالة الملك بدقة في خطبه: “انعدام الضمير المهني، وسوء معاملة المواطنين، والاستهتار بخدمتهم.”
صباح اليوم، قررت الانتقال شخصيًا إلى إدارة الجمارك بالميناء لاستفسار بسيط: ما هي الوثائق المطلوبة لإتمام عملية التعشير؟
استقبلني المسؤول الأول، الـ«ordonnateur»، وكان برفقته موظف شاب. شرحت له طبيعة الآلة، وبيّنت أنها ليست آلة كاملة بل جزء منها فقط (chariot).
ابتسم وقال:
– “سنذهب معًا إلى المحجز لمعاينتها.”
ثم ضحك هو ومرافقه وأضاف ساخرًا:
– “لكن أولاً عليك أن تذهب إلى إدارة الميناء لاستخراج تصريح الدخول، وبعدها نلتقي هناك.”
غادرت المكتب متفائلًا. توجهت إلى إدارة الميناء، وهناك بدأت الحلقة الأولى من المتاهة.
انتظرت أكثر من ساعة ونصف لاستخراج تصريح بسيط.
بعد ذلك بدأت رحلة البحث عن المحجز المقصود.
المحجز الأول؟ لا، ليس هنا.
الثاني؟ أيضًا لا، انتقل إلى الآخر.
دوّرت قرابة ساعة كاملة بين المكاتب والحراس والبوابات. كل واحد يوجهني إلى آخر، وكأنني في سباق نحو اللاشيء.
عدت مرهقًا إلى الإدارة الأولى لعلّي أجد المسؤول.
قالوا لي إنه غير موجود، وربما في المحجز.
توجهت إلى المحجز الأخير بعد جهد نفسي كبير. عند البوابة، أوقفني رجل الأمن بأدب:
– “عذرًا سيدي، لا يمكنك الدخول بالسيارة، تحتاج تصريحًا خاصًا.”
ركنت السيارة بعيدًا، وسرت مسافة طويلة تحت شمس خانقة حتى وصلت إلى أحد المكاتب.
فتحت الباب، فإذا بالمسؤول نفسه هناك، جالسًا مع مرافقه، يضحكان كأن شيئًا لم يكن.
ابتسم بسخرية وقال لي:
– “أرأيت؟ وجدتني في المكتب هناك، وها أنا هنا الآن… أليست مفاجأة؟”
أجبته بابتسامة متعبة:
– “نعم، الفرق أنك انتقلت بسلاسة، وأنا جريت نصف اليوم لأصل إلى هنا.”
خرج من المكتب ونادَى أحد الموظفين قائلاً:
– “المكينة إياها ما زالت في المحجز؟”
أجابه الموظف:
– “نعم سيدي، هل نصطحب الرجل معنا ليرى الجهاز؟”
ضحك المسؤول وقال متعالياً:
– “لا طبعًا، ألم تقرأ المذكرة التي تمنعنا من اصطحاب أي أحد في سياراتنا؟”
صمت الموظف وفي عينيه شيء من الحسرة، بينما أنا وقفت مذهولًا، أحاول أن أفهم:
كيف يُعقل أن يُطلب مني الذهاب إلى المحجز لمعاينة الآلة، ثم يُمنع عني ذلك بعد كل هذا العناء؟
عند تلك اللحظة، شعرت بشيء يشبه الغبن.
غبن لا يُقاس بثمن، لأنه لا يمس جيبك، بل كرامتك.
ذلك النوع من الغبن الذي يختبر صبرك، ويهز إيمانك بمؤسسات من المفترض أنها خُلقت لخدمتك، لا لإهانتك.
نظرت إلى ذلك المسؤول، ورأيت في ملامحه شيئًا من النقص المركب، وكأنه يتغذى على معاناة المرتفقين.
كان يستمتع بتلك اللحظة التي يراك فيها تتوسل معلومة، بينما هو يمارس سلطته البيروقراطية الباردة. لم أعقب على هذا المشهد الدرامي … و اخترت أن أعود أدراجي دونما اية كلمة … و بينما ارحل أسمعه يقول بصوت مرتفع، لست أنا بل هناك مذكرة … و انا اقول في نفسي … تبا للمذكرة و تبا لي …
تساءلت وأنا أخرج من الميناء:
أين هي خطب جلالة الملك التي دعت إلى “تخليق الحياة العامة” و“تحسين علاقة الإدارة بالمواطن”؟
أين تلك الروح التي قال عنها:
“إن الإدارة في خدمة المواطن، وليس العكس، ولا مكان في مرافق الدولة لمن يسيء إلى المواطنين أو يتهاون في خدمتهم.”
اليوم، عشت التجسيد الكامل لما يُسمّى “المساطر المعرقلة”، وواجهت نموذجًا صارخًا من اللامسؤولية الأخلاقية.
خرجت من الميناء منهكًا، لكن بإيمانٍ أكبر بأن الإصلاح لا يكون بالنصوص وحدها، بل بتغيير العقليات، وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة كما أراده جلالة الملك منذ سنوات.
نحن لا نحتاج قوانين جديدة، بل نحتاج فقط أن تُحترم خطب الملك وتُترجم إلى واقع داخل المكاتب.
يوم يُصبح الموظف مؤتمَنًا بحق على كرامة المرتفق، سنقول إننا بدأنا فعلاً طريق الإصلاح.
أما الآن، فما زالت إداراتنا تمتحن صبرنا كل يوم، وتذكرنا أن الطريق طويل نحو الإدارة المواطِنة التي حلم بها الملك والمغاربة جميعًا.
د. وصفي بوعزاتي













