في مدينة أريد لها أن تصمت، وأن تُطوى ذاكرتها الاحتجاجية تحت ركام القمع والتهميش، خرج آخر صوت حقوقي مدني ما يزال يرفض التطبيع مع الخوف، ويرفض تحويل الحسيمة إلى فضاء مُدجَّن بلا نبض. بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، لبّت ثلة من الحقوقيات والحقوقيين، من مختلف الأجيال والتجارب، نداء الاحتجاج، في وقفة دعت إليها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان – فرع الحسيمة، واختارت لها فضاءً بسيطاً في رمزيته عميقاً في دلالته: الوقوف أمام مقر الفرع، لا بحثاً عن الاستعراض، بل إصراراً على أن الحقوق لا تحتاج إلى ترخيص كي تُرفع.
لم تكن الوقفة مجرد استعادة طقوسية ليوم أممي بات يُفرغ من مضمونه بفعل النفاق الدولي، بل كانت فعلا سياسيا بامتياز، وصرخة في وجه منظومة سلطوية تُراكم الخيبات وتُجيد صناعة الصمت. الوقفة، التي رُفعت فيها شعارات واضحة دون مواربة، وجدت نفسها محاصَرة من كل الجهات بقوى الأمن، في مشهد بات مألوفا كلما تعلق الأمر بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان أو بالأصوات الديمقراطية الحرة. حصارٌ لا يُفرض إلا عندما تكون السلطة في حالة استنفار، لأن ما يُخيفها ليس العدد، بل المعنى، وليس الهتاف، بل ما يفضحه من اختلال بنيوي.
الوقفة استحضرت، بوعي سياسي نقدي، جملة من القضايا الساخنة التي تشكل جوهر الأزمة الحقوقية بالمغرب، وفي مقدمتها قضية المعتقلين السياسيين، باعتبارها الجرح المفتوح الذي لا تريد الدولة أن تعترف به. فاستمرار الاعتقال السياسي ليس خطأً عارضاً، بل خيارٌ سلطوي يهدف إلى تأديب المجتمع وكسر إرادة الاحتجاج، خصوصا في مناطق مثل الحسيمة، التي دفعت ثمنا باهظا لجرأتها على رفع مطالب اجتماعية مشروعة. إلى جانب ذلك، كان كبح الحريات العامة والفردية حاضراً بقوة، في ظل تضييق ممنهج على حرية التعبير والتنظيم، وتجريم الأصوات المزعجة، واستعمال القضاء كأداة للردع بدل العدالة.
ولم يكن ممكنا أن تمر الوقفة دون إعلان التضامن الصريح مع الشعب الفلسطيني، في زمن اختارت فيه الدولة الارتماء في أحضان التطبيع مع الكيان الصهيوني، ضدا على التاريخ والوجدان الشعبي. لقد عبّر المحتجون بوضوح عن رفضهم لهذا المسار، واعتبروه خيانة سياسية وأخلاقية، ومشاركة غير مباشرة في الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني. فالتطبيع، من منظور اليسار الجذري، ليس مجرد خيار دبلوماسي، بل اصطفاف طبقي واستراتيجي مع منظومة استعمارية وعنصرية، في مقابل سحق قضايا التحرر والعدالة.
الوقفة لم تنفصل عن الواقع الاجتماعي المرير للمنطقة، حيث طُرحت بقوة محنة الصحة والتعليم، بوصفهما قطاعين يُداران بمنطق التقشف واللامبالاة، لا بمنطق الحق. فمستشفيات بلا تجهيزات، وأطر منهكة، ومدارس عمومية تُفرغ من دورها الاجتماعي، في مقابل تكريس منطق الخوصصة والتمييز الطبقي. كما لم يغب عن شعارات المحتجين التنديد بالتهميش المزمن الذي تعانيه الحسيمة وباقي مناطق الريف، حيث تُغيَّب المشاريع التنموية الحقيقية، ويُترك الشباب فريسة للبطالة والهجرة السرية، أو للهشاشة بكل تجلياتها.
وقد جرى التشديد كذلك على انتشار لوبيات الفساد والاستئساد، التي تستفيد من الريع وتحتكر الثروة والقرار، في ظل إفلات شبه تام من المحاسبة. فالدولة التي تُحاصر وقفة سلمية، هي نفسها التي تغض الطرف عن الفساد البنيوي، لأن العلاقة بين السلطوية والفساد علاقة عضوية، لا يمكن فكها إلا بنضال ديمقراطي جذري.
اختُتمت الوقفة بكلمة قوية لرئيس فرع الجمعية، محمد المجاوي، الذي استعرض بتفصيل ومسؤولية مختلف الملفات المثارة، رابطا بينها بخيط ناظم واضح: غياب الإرادة السياسية الحقيقية لاحترام حقوق الإنسان، وتحويل هذا الشعار إلى واجهة تجميلية للاستهلاك الخارجي، بينما الواقع اليومي للمواطنات والمواطنين يسير في الاتجاه المعاكس. كانت الكلمة بمثابة توثيق سياسي للمرحلة، وشهادة إدانة لنظام يضيق صدره بأي تعبير مستقل.
إن هذه الوقفة، رغم بساطتها العددية، تؤكد أن الحسيمة لم تُهزم، وأن الصوت الحقوقي، وإن خفت، ما يزال قادرا على إزعاج السلطة وكشف تناقضاتها. وهي تذكير بأن المعركة من أجل الحقوق والحريات ليست موسمية ولا احتفالية، بل معركة طويلة النفس، لا تخاض إلا بالانحياز الواضح إلى قضايا الشعب، وبالتمسك بخط نقدي جذري لا يساوم ولا يهادن. ففي زمن الردة الحقوقية، يصبح مجرد الاحتجاج فعلا مقاوما، ويغدو الصمت تواطؤا.
ابو علي بلمزيان













