في عمق المغرب المهمل، في هوامش الجغرافيا التي نُزعت عنها صفة المواطنة والتنمية، ترقد القرى المغربية كجراح مفتوحة على زمن الدولة الطبقية. لا شيء في هذه المناطق يدل على أن الزمن يتقدم. الماء الصالح للشرب حلم، الكهرباء ترف، الإنترنت رفاهية غير مفهومة، المدرسة حفر مهجورة، المستوصف جثة باردة بلا روح ولا دواء، والطريق حفرة نحو العزلة. كل شيء هناك يدل على أن هذا الوطن مبني على مفارقة مريرة: أقلية تعيش في فضاء التنمية، وأغلبية تُركت فريسة الفقر والتهميش، لأن الدولة الرأسمالية اختارت، منذ عقود، أن تحابي المركز وتخون الهامش.
القرى اليوم تعيش احتقانا صامتا. صمتها ليس رضا، بل كتمان غضب. غضب لم يعد قابلاً للاحتواء، لا بقمع البوليس ولا بمساحيق الإعلام الرسمي. هو غضب تراكم لعقود من التفقير المنهجي والتمييز المجالي والتخلي الكامل عن مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها. ومَن يظن أن هذا الصمت أبدي، فهو لا يفهم قوانين التاريخ ولا ديناميات الصراع الطبقي. فالساكنة التي رُحّلت قسراً إلى المدن بحثاً عن لقمة عيش، والتي تُرك من تبقى منها في العراء بلا بنية تحتية ولا أبسط شروط الكرامة، بدأت تدرك أن لا مفر من الانفجار، وأن لا جدوى من انتظار وعود الإصلاح في دولة تتحالف فيها السلطة مع رأس المال ضد الفقراء.
إن من يزعم أن المغرب يسير نحو التنمية الشاملة، يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الشعب. أي تنمية هذه التي لا تصل إلى قرى لا ماء فيها ولا طرق؟ أي إصلاح هذا الذي يرفع شعارات الدولة الاجتماعية بينما سكان الجبال يقطعون كيلومترات من أجل قنينة ماء أو حبة دواء؟ الحقيقة الصادمة أن هذا النظام لا يريد تنمية القرى، لأنه ببساطة لا يخدم مصالحه. قرى قوية تعني مواطنين أحراراً، وتعني توزيعاً عادلاً للثروة، وتعني نهاية الريع الانتخابي الذي تستثمر فيه الدولة وأذرعها السياسية لتجديد شرعيتها الزائفة.
الحكومة الحالية، ككل الحكومات التي سبقتها، لا تملك مشروعاً حقيقياً للعدالة المجالية، لأنها لا تؤمن بها. هي تُدير الأزمة، لا تُعالج جذورها. تُقدم وعوداً فوقية في الرباط، وتُوكل التنفيذ إلى إدارات محلية غارقة في الزبونية والفساد وقلة الكفاءة. يتم التعامل مع القرى كمجال للتفريغ، لا كفضاء للعيش. كل ما يهمها هو ضمان الهدوء الاجتماعي حتى تمر اللحظة الانتخابية أو تمر صفقة تنموية معينة في مركز من المراكز. أما العطش، والفقر، والعزلة، وغياب التعليم والصحة، فتُترك لتقضي على ما تبقى من أمل في هذه المناطق.
وحين نتحدث عن الخصاص، فنحن لا نتحدث عن تفاصيل ثانوية. نحن نتحدث عن مأساة تاريخية تُعاد كل يوم: أطفال يمشون ساعات للوصول إلى مدرسة بلا أساتذة، نساء يلدن في ممرات المستوصفات أو على حواف الطرقات، شباب لا يملكون حتى بطاقة تعريف، لأن أقرب قيادة تبعد عشرات الكيلومترات. نتحدث عن مواطنين خارج التغطية، ليس فقط التغطية الصحية، بل خارج التغطية السياسية والاجتماعية والرمزية.
كل هذا يحدث في بلد يراهن على تنظيم كأس العالم، ويحتفي بمشاريع كبرى لا تصل انعكاساتها إلا إلى أقلية محظوظة في المدن. بلد يُنفق الملايير على الترويج لصورته الخارجية، ويعجز عن تعبيد طريق تؤدي إلى قرية منكوبة في الجنوب أو الشرق أو الجبال. بلد يبني التحالفات مع الإمبريالية الاقتصادية العالمية، ويهمل شرطه الداخلي الأول: شعبه.
ولأن الصبر الاجتماعي ليس بلا نهاية، فإن ما يُخزن اليوم في ذاكرة القرى هو مادة قابلة للاشتعال. لا أحد يمكنه أن يتنبأ بلحظة الانفجار، لكنها آتية لا محالة. لقد رأينا ما حدث في الريف وجرادة، وكيف حاول النظام أن يطمس الغضب بالقمع والتشويه والتخوين. لكن الحقيقة أبْقى من كل دعاية: ما دام التهميش قائماً، فالتمرد قادم. وما دامت الدولة تنكص عن التزاماتها، فإن الهامش سيبحث عن لغته الخاصة، عن صوته، عن فعله الثوري.
ولأن الشعب لا يتوسل الحلول، بل يفضح جوهر الاختيارات، فإن المطلوب ليس ترقيع السياسات العمومية، بل إسقاط منطقها. المطلوب هو القطع مع الرأسمالية النيوليبرالية التي ترى في القرى أسواقاً صغيرة أو فضاءات متخلفة، وليست كياناً مواطنياً يستحق الحياة. المطلوب هو مشروع وطني ديمقراطي شعبي، يضع العالم القروي في قلب الاهتمام، لا في هامش الشعارات.
إن المطلوب اليوم هو إعلان حالة طوارئ اجتماعية في القرى المغربية، تُعبّأ لها كل الطاقات، لا لإنقاذ صورة الدولة، بل لإنقاذ المجتمع من التفكك. يجب أن تُخصص ميزانيات استثنائية للماء، للطرق، للمدارس، للمراكز الصحية، لشبكات الاتصال، ويجب أن يُفتح حوار حقيقي مع الساكنة، لا لقاءات صورية لامتصاص الغضب. يجب أن تُربط القرى بالحياة، لا أن تُترك في التيه.
إن القرى لا تطلب معجزات، بل تطلب الحد الأدنى من الكرامة. تطلب أن يُعامل أبناؤها كباقي أبناء هذا الوطن. تطلب أن يُنصت لصوتها لا لصدى الباطرونا والمستثمرين الكبار. تطلب أن تُعامل كجزء من المغرب لا كمجرد امتداد رمزي له. لكن من يُنصت في هذا النظام لمن لا يملكون سوى صراخهم الداخلي؟
وحين تصرخ القرى في صمت، فإنها تقول لنا جميعاً: إننا على حافة الانفجار، ليس لأننا نريد الفوضى، بل لأننا سُحقنا تحت عجلة التمييز والخذلان. ومن لا يقرأ هذا الصمت بوصفه علامة سياسية كبرى، فهو لا يرى شيئاً. أما نحن، أبناء اليسار الجذري، فإننا نضع الهامش في صلب نضالنا، لا لأننا نمارس التعاطف، بل لأننا نؤمن أن الثورة تبدأ من هناك، من القاع، من القرية، من الجبل، من ذلك الطفل الذي يمشي في الطين حاملاً حقيبته، ولا يعرف إن كانت المدرسة ستفتح أبوابها أو لا.
إن هذا البلد لن يستقيم حاله ما لم تُسترد القرى كفضاء للكرامة. وما لم يُحاسب هذا النظام على عقود من الخيانة المجالية والاجتماعية. فلا وطن بدون قرى حية، ولا عدالة بدون إنهاء هذا التفاوت البشع بين المركز والهامش. وليعلموا أن من يزرع القهر، لن يحصد إلا التمرد.
– أبوعلي بلمزيان